شرح القانون المدني الجزء الرابع العقود التي تقع على الملكية البيع و المقايضة
تأليف الدكتور _عبد الرزاق السنهوري_
شرح القانون المدني الجزء الرابع العقود التي تقع على الملكية المجلد الاول البيع و المقايضة تأليف الدكتور
_عبد الرزاق السنهوري_
تمهيد:
العقود المسماة وتقسيماتها المختلفة
1_العقود المسماة
1 – المقصود ب العقود المسماة : بعد أن فرغنا من عرض نظرية الالتزام بوجه عام في الأجزاء الثلاثة الأولى من الوسيط ، ننتقل في الأجزاء الثلاثة التالية إلى تطبيق أحكام هذه النظرية وقواعدها المجردة تطبيقاً مفصلا على عقود معينة
بالذات أطلقت عليها أسماء معروفة . وقد عنى المشرع بهذه العقود عناية كبيرة ، فخصص لها الكتاب الثاني
من القسم الأول من التقنين المدني تحت عنوان العقود المسماة ، فأعقب هذا الكتاب الثاني الكتاب
الأول الذي خصصه المشرع لنظرية الالتزام بوجه عام .
والمقصود بالعقود المسماة عقود كثيرة التداول في الحياة العملية ، حتى عرفت بأسمائها الخاصة ، وذلك نحو البيع
والهبة والشركة والإيجار والمقاولة والوكالة ، وقد نظمها المشرع تنظيما مفصلا لما لها من أهمية بالغة في ميادين
التعامل والنشاط الاقتصادي .
وقد كان التمييز بين العقود المسماة والعقود غير المسماة في القانون الروماني يقوم على أساس آخر غير الأساس
الذي يقوم عليه هذا التمييز في القانون الحديث .
2 – التمييز بين العقود المسماة والعقود غير المسماة في القانون الروماني :
بدأت العقود في القانون الروماني تكون شكلية ، تحوطها أوضاع معينة . ولكن الحضارة الرومانية ما لبثت أن تطورت ،
إذ دعت الحاجة إلى كثرة التبادل ووجوب السرعة في المعاملات . واقترن ذلك بتقديم في التفكير القانوني ، فظهر إلى
جانب العقود الشكلية العقود العينية ( القرض والعارية والوديعة والرهن) ، والعقود الرضائية ( البيع والإيجار والشركة والوكالة) والعقود غير المسماة .
والعقود غير المسماة عقود اعترف بها القانون الروماني تدرجاً وبعد تطور طويل ، وهي عقود لا تتم إلا إذا قام أحد الطرفين بتنفيذ ما اتفق عليه مع الطرف الآخر ، فإذا فعل تكون العقد ، ونشأ بموجبه التزام في جانب الطرف الآخر بأن يقوم
هو أيضاً بتنفيذ ما اتفق عليه مع الطرف الأول .
وكان الرومان يقسمون هذه العقود أقساماً أربعة : ( القسم الأول) عقود يقوم فيها الطرف الأول بنقل حق عيني ، فيتولد
في جانب الطرف الآخر التزام بنقل حق عيني كذلك ( do ut des )، من ذلك عقد المقايضة (premutatio ) ( والقسم الثاني ) عقود يقوم فيها أحد الطرفين بنقل حق عيني ، فيلتزم الطرف الآخر بالقيام بعمل ( do ut facias ) ، مثل ذلك الهبة
بعوض ( sub modo ) . (والقسم الثالث ) عقود يقوم فيها أحد الطرفين بعمل ، فيلتزم الطرف الآخر أن يقوم بعمل كذلك
( facio ut facias ) ، مثل ذلك أن يسلم شخص شيئًا لآخر فيلتزم الآخر برده عند أول طلب ( convention do precaire ) .
( والقسم الرابع ) عقود يقوم فيها أحد الطرفين بعمل ، فيلتزم الطرف الآخر بنقل حق عيني ( facio ut des ) ، مثل ذلك
عقد المحاسبة ) ( facio ut facias ) ، وهو أول عقد طبق فيه الرومان دعوى العقود غير المسماة ( praescriptio verbis )
لما رأوه عقداً يدور بين البيع والعمل والوكالة .
ونرى مما تقدم أن تسمية هذه العقود في القانون الروماني بالعقود غير المسماة تسمية غير دقيقة ، فإن أغلب هذه العقود كان معروفاً بالإسم . ولكنها دعيت كذلك لأنها لا تدخل في نوع من أنواع العقود المسماة التي اعترف بها القانون
الروماني : العقود الشكلية والعقود العينية والعقود الرضائية والعقود الشرعية والعقود البريطورية .
ونرى أيضاً أن التمييز بين العقد المسمى والعقد غير المسمى كان ذا أهمية كبيرة في القانون الروماني ، لأن العقد غير المسمى – خلافاً للعقد المسمى – كان لا يتم إلا إذا قام أحد الطرفين بتنفيذ ما اتفق عليه مع الطرف الآخر ، ولا يوجد
العقد قبل ذلك . فهي عقود قريبة من العقود العينية التي لا تتم إلا بالتسليم.
3 – التمييز بين العقود المسماة والعقود غير المسماة في القانون الحديث :
أما في القانون الحديث فلم يعد هناك فرق بين العقد المسمى والعقد غير المسمى ، فكلاهما يتم بمجرد تراضى المتعاقدين إلا في العقود الشكلية وما بقي من العقود العينية . وإذا كان بعض العقود يطلق عليه اسم العقود المسماة
فليس ذلك كما قدمنا إلا لأنها عقود نظمها المشرع تنظيما خاصاً ، نظراً لكثرة تداولها في العمل إلى حد أن أصبحت
قواعدها رأسية مستقرة .
وسنرى ما هي العقود المسماة التي نظمها التقنين المدني الجديد. ونبادر هنا إلى القول بأن قائمة العقود المسماة
تتطور من زمن إلى زمن بحسب ما يألفه الناس في التعامل . فالعقود المسماة في هذا العصر قد تزيد أو تنقص
عن العقود المسماة في عصر سابق أو عصر لاحق ، إذ تظهر عقود جديدة وتختفي عقود قديمة .
ونلمح هذا التطور عندما نلاحظ أن هناك عقوداً أخذ شأنها يتعاظم في مجالات العمل ، ولكنها لم تصل بعد إلى المرتبة
التي تكفل لها التنظيم المفصل ، وتتفاوت التقنينات المختلفة فيما تتناوله بالتنظيم من هذه العقود . فقد كان التقنين
المدني السابق لا ينظم عقود المقامرة والرهان والإيراد المرتب والتأمين والتزام المرافق العامة ، وقد نظم هذا كله
التقنين المدني الجديد . ولم ينظم التقنين المدني الجديد عقود النشر والنزول في الفندق والنقل والأعمال العامة
والتوريد ، مع أن هذه عقود تتزايد أهميتها كل يوم ، وقد نظمت التقنينات الأجنبية بعض هذه العقود.
أما العقود غير المسماة – وهي التي يتولى المشرع تنظيمها – فإنها تخضع في أحكامها للقواعد العامة في نظرية
العقد ، شأنها في ذلك شأن العقود المسماة .
وقد كان المشروع التمهيدي للتقنين المدني الجديد ( م 127 ) يشتمل على نص في هذا المعنى يجري على
الوجه الآتي :
1 – تسري على العقود ، المسماة منها وغير المسماة ، القواعد العامة التي يشتمل عليها هذا الفصل .
2 – أما القواعد التي ينفرد بها بعض العقود المدنية فتقررها الأحكام الواردة في الفصول المعقودة لها ، وتقرر قوانين
التجارة القواعد الخاصة بالعقود التجارية . وقد حذفت لجنة المراجعة هذا النص لعدم الحاجة إليه.
ومثل العقود غير المسماة أن يتفق شخص مع آخر على أن يثبت له ميراثاً يستحقه ، وعلى أن يقوم بدفع المصروفات
التي يستلزمها هذا العمل في نظير جزء من هذا الميراث يأخذه إذا وفق في عمله .
أو يتفق شخص مع آخر على أن يبيع الأول لحساب الثاني شيئًا على أن يعطى الأول للثاني بعد البيع مبلغاً معيناً ،
وما زاد من الثمن على هذا المبلغ يحتفظ به لنفسه ، وعقد المحاسبة الذي أشرنا إلى وجوده في القانون الروماني
هو أيضاً عقد غير مسمى ، وكذلك العقد بين مدير المسرح والممثلين.
وتكييف العقد ، هل هو عقد من العقود المسماة أو هو عقد غير مسمى ، قد يكون في بعض الحالات مسألة دقيقة .
ولا عبرة بالألفاظ التي يستعملها المتعاقدان إذا تبين أنهما اتفقا على عقد غير العقد الذي سمياه ، فقد يكونان مخطئين
في التكييف ، وقد يتعمدان أن يخفيا العقد الحقيقي تحت اسم العقد الظاهر $6 كما في الوصية يخفيها الموصى تحت
ستار البيع .
على أن العقد – مسمى أو غير مسمى – قد يكون بسيطاً ، إذا لم يكن مزيجاً من عقود متنوعة، كالبيع والإيجار .
فإذا اشتمل على أكثر من عقد امتزجت جميعاً فأصبحت عقداً واحداً ، سمى عقداً مختلطاً ( mixte, complexe )
كما في العقد بين صاحب الفندق والنازل فيه ( contrat d’hotellerie ) ، فهو مزيج من عقد إيجار بالنسبة إلى المسكن
وبيع بالنسبة إلى المأكل ، وعمل بالنسبة إلى الخدمة ، ووديعة بالنسبة إلى الأمتعة .
وكذلك العقد بين صاحب المسرح وأفراد النظارة مزيج من عقد إيجار بالنسبة إلى المقعد ، وعمل بالنسبة إلى وسائل التسلية التي تعرض على المسرح . ومن الأمثلة على العقود المختلطة :
عدة عقود تمتزج في عقد واحد وذلك كمدير شركة يتولى إدارتها ويكون وكيلا عنها ، فيمتزج عقد العمل بعقد الوكالة .
وقد يتوالى العقدان الواحد بعد الآخر ، كعقد نقل بحري يعقبه عقد نقل برى أو إيجار يقترن بوعد بالبيع .
إضافة شرط إلى العقد ليس من مقتضياته ، كما إذا التحق بعقد البيع شرط للتأمين أو التحق بعقد النقل شرط للتخزين . الجمع بين عناصر متفوقة من عقود مختلفة ، كالعقد الذي يجمع بين الإيجار والبيع (Lcation – vente) وكالوديعة
في المصارف تدور بين الوديعة الناقصة والقرض .
وليست هناك أهمية كبيرة لمزج عدد من العقود وتسميتها جميعاً بالعقد المختلط ، فإن هذا العقد إنما تطبق فيه أحكام
العقود المختلطة التي يشتمل عليها . على أنه قد يكون من المفيد في بعض الأحيان أن يؤخذ العقد المختلط كوحدة
قائمة بذاتها ن وذلك إذا تنافرت الأحكام التي تطبق في كل عقد من العقود التي يتكون منها ، ففي هذه الحالة يجب
تغليب أحد هذه العقود باعتباره العنصر الأساسي وتطبيق أحكام هذا العقد دون غيره .
فعقد التليفون عقد يدور بين عقد العمل وعقد الإيجار ، ولكن القضاء غلب عنصر عقد العمل فرفض دعوى إعادة وضع اليد
التي رفعها مشترك قطعت عنه المواصلة.
4- الأغراض المختلفة التي يتوخاها المشرع في تنظيم العقود المسماة :
والعقود المسماة تخضع هي أيضاً للقواعد العامة في نظرية العقد كما تخضع العقود غير المسماة ، وقد رأينا أن المشروع التمهيدي للتقنين المدني الجديد كان يشتمل على نص في هذا المعنى . ولكن المشرع يعني مع ذلك بتنظيمها
وإيراد نصوص خاصة في شأنها ، توخياً لتحقيق أغراض مختلفة منها :
1 – لما كانت العقود المسماة هي من أكثر العقود شيوعاً في التعامل ، وقد أعان شيوعها على إرساء قواعدها واستقرار أحكامها ، فإن المشرع أراد بتنظيم العقد الرسمي أن يعبد الطريق للمتعاملين ، فلا يجدون مشقة في تنظيم
علاقاتهم التعاقدية ، إذ تنبه المشرع لأكثر ما يعرض لهذه العلاقات فتناولها بالتنظيم والتحديد ، ووضع أحكاماً
نموذجية هي نتاج خبرة القرون الطويلة .
ولم يكن المتعاقدان ليستطيعا التنبه لجميع هذه المسائل ، فتولاها المشرع عنهما . على أن المشرع في تنظيمه للعقد المسمى لا يصادر مبدأ سلطان الإرادة ولا حرية المتعقادين في تنظيم تعاملهما على الوجه الذي يثرانه . فلو أنهما
في بعض المسائل التي نظمها المشرع يريدان حلولا أخرى غير تلك التي وضعت ، وكانت هذه المسائل ليست
من النظام العام ، فإنهما يستطيعان أن ينسخا الحلول التي وضعها المشرع ، وليس عليهما في ذلك إلا أن يضعا
الحلول التي اختارها فتكون هي المعمول بها دون الحلول التي وضعها المشرع .
2- والمشرع عندما يطبق القواعد العامة على عقد مسمى بالذات ، كثيراً ما يجلى تطبيقات خفية لهذه القواعد ، تختلف
فيها الأنظار . فيعرض لما فيه خفاء من هذه التطبيقات فيوضحه بنصوص حاسمة لا تدع مجالا للاضطراب والبلبلة .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، نذكر منها ضمان الاستحقاق وضمان العيوب الخفية وتحمل تبعة الهلاك .
3 – على أن المشرع لا يقتصر على مجرد تطبيق القواعد العامة في العقود المسماة ، فهو في بعض الحالات يخرج
على هذه القواعد لمبررات خاصة ترجع إلى العقد المسمى الذي يتولى تنظيمه ، وأكثر هذه المبررات تتصل بالنظام العام .
فإيراد نصوص على هذا النحو يصبح إذن أمراً ضرورياً ، إذ هو يجعل الأحكام الواجبة التطبيق تختلف اختلافاً بينا عن تلك
التي تستنبط من القواعد العامة .
نذكر للتمثيل على ذلك ما حاد فيه المشرع عن تطبيق القواعد العامة في الحقوق المتنازع فيها ، وفي بيع المريض مرض الموت ، وفي بيع ملك الغير ، وفي كثير من نصوص عقد العمل ، وفي الرجوع في الهبة ، وفي الغلط في الصلح
وفي التزام المرافق العامة ، وفي تعديل الأجرة في عقد الوكالة ، وفي التأمين بما يشتمل عليه من قواعد خاصة
وغير ذلك كثير نراه منتثرًا في نواح متفرقة من العقود المسماة .
4 – وقد يعمد المشرع أخيراً ، في تنظيم العقد المسمى ، إلى تحقيق غرض هام ، هو توجيه هذا العقد وتطويره بحيث يتمشى مع الاتجاهات المتجددة . فعل ذلك في تحريم الرهن الذي يستتر تحت اسم بيع الوفاء ، وفي تحريم
بيع الوفاء ذاته ، وفي تنظيم أحكام الأجهزة الحديثة في العين المؤجرة ، وفي تنظيم ما ألفته الناس من خلط عقد
الإيجار بعقد البيع .
ويخلص مما تقدم أن تنظيم المشرع للعقد المسمى ييسر معرفة الأحكام التي تسرى على هذا العقد مرتبة بحسب
الأولوية . ففي المرتبة الأولى يجب تطبيق النصوص الخاصة التي أوردها المشرع في هذا العقد المسمى بالذات .
فإذا لم يوجد نص يمكن تطبيقه منها ، وجب تطبيق النصوص الواردة في النظرية العامة للعقد أي تطبيق القواعد العامة . وتطبق بعد ذلك المصادر غير التشريعية من عرف ونحوه . ويغلب أن تغطى النصوص الخاصة والقواعد العامة الجزء الأكبر
من منطقة العقد الرسمي ، فلا يبقى بعد ذلك إلا حيز ضيق تطبق فيه المصادرغير التشريعية.